• ×

د.عبدالرحمن الدهش

آفة الترف

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  5.7K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله قسم معيشة عباده وأحسن التدبير، وأمر بالنفقة ونهى عن الإسراف والتقتير. وأشهد ألا إله إلا الله إليه المصير. وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله البشير النذير. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الاعتدال والتيسير ، وسلم تسليماً كثيراً .

أما بعد :- فإنَّ الله أسبغ نعمه ظاهرة وباطنة، ووعد الشاكرين بالمزيد، وحذر الكافرين العذاب الشديد, (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

عباد الله: قوموا بشكر نعم الله عليكم تُرضوا خالقكم، وتقرُّ به نعم الله عندكم؛ فالشكر به بقاء النعم وقرارها، واحذروا التوسع في الدنيا، والتخبط في مال الله فتترفوا أبدانكم، وتفسد بذلك أديانكم.

وإنَّ الله ما ذكر الترف في كتابه إلا في مقام التحذير لعباده، فالمترفون هم أعداء الرسل (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ). والمترفون يا عباد الله هم أقرب الناس من كل معصية، وأبعدهم عن كل موعظة، لا يلتفتون إلى إنكار المنكرين. فمن هم هؤلاء الذين هذه بعض أوصافهم؟!.

إنَّ المترفين هم الذين همهم شهوات بطونهم وفروجهم، مقبلون على ملاذ أنفسهم، يسعون في تنويع مطاعهم، ووثارة فرشهم, وحسن مسكنهم ومركبهم.

إنَّ وجود هذه الطائفة من الناس في مجتمع ما سبب لهلاكه وتدميره يقول الله تعالى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).

فالمترفون سبب لدمار المجتمعات تدميراً حسياً بتسلط الأعداء يجوسون خلال الديار. وسبب لدمار المجتمعات تدميراً معنوياً فيغرق الناس في ما حرَّم الله، ويفتح المترفون لمجتمعاتهم ولبيوتهم من ألوان الفساد ما لا يخطر على بالهم، فهم المجرمون في حق أمتهم قال الله تعالى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ).

إنَّ من مفاسد الترف أن يقضي الإنسان على رجولته وقوة بدنه فهو قليل الحركة، كثير النوم، لا يتحمل أدنى جهد بدني، فبدنه منعم، همته قاصرة، لا يحدث نفسه بعمل هو من شؤونه، وربما من إصلاحات بيته. فهدم بهذا صحته وأضعف جسمه وعرَّضه للأمراض الخطيرة.

ومن مفاسد الترف ثقل العبادة على قلبه فليس عنده صبر في صلاته، فحرمه ترفه لذة الصلاة وحسن إطالتها، والعناية بكمالها. بل حرمه ترفه الحضور للصلاة في أوقات تتعارض مع أوقات لذته وطيب نومه. فتخلف عن صلاة الفجر لأنَّ المترف لا يستطيع حمل جسمه من فراشه، و إمرار الماء على أعضاء وضوئه.

وفي باب الإنفاق فالمترف أشد شيء عليه بذل المال زكاة أو صدقة يخشى أن يكون ذلك على حساب كماليات حياته، ومخططات مستقبلة. ثم لا تسأل عن حال المترف في الصيام، وفي الحج فهو كلٌّ على نفسه عبء ثقيل على غيره.

ثم لم يقتصر ترفه على حمله على التقصير في طاعة ربه فهو منزلق في بعض أو كثير مما حرم عليه استعان بمال الله على معصيته يحقق رغبته ولو أضر بدينه فهو يشتري بماله ما ينظر إليه ولو كان حراماً ، ويشتري بماله ما يستمع إليه ولو كان حراماً ، ويشتري بماله ما يدخله جوفه ولو كان حراماً، ولو أذهب عقله وقضى على مروءته، وفي هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ " رواه البخاري.

ثم إن حياة الترف لا يعيشها الغني فقط، بل إن من الفقراء من أترفوا أنفسهم، والترف ليس باللازم أن يكون في كل شيء في حياة الإنسان فقد يترف الإنسان نفسه في أكله وشربه، ولكنه مقتصد في مركوبه، وقد يترف نفسه في تأثيث بيته، وحسن أثاثه، ولكنه مقتصد في مأكله ومشربه. وأسوأ الترف ما كان في ثانويات الحوائج، وما قد يستغنى عنه في الحياة، ثم إن كان هذا كله في دين يحمله على ظهره، وفي أقساط سلطها على مرتبه فما أشد غبنه، وما أبعد رشده!

عباد الله: اعلموا أنكم لم تخلقوا لتأكلوا وتشربوا كما تأكل وتشرب البهائم بل إن هذه هي صفة الذين كفروا, (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) .

أمَّا أنت أيها المؤمن فقد خلقت لمعنى عظيم خلقت لعبادة الله وإقامة شرعه والمجاهدة في سبيله، وأول الجهاد جهاد النفس فاصبر وصابر ورابط. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) .

 

أما بعد:- فقد لا يختار الإنسان الترف لنفسه، ولكنه قد يختاره لأحد ممن هو مسؤل عن تربيته، أو يقره عليه. ولئن سبق حديث عن شبيبة من أبنائنا اختاروا طريق الجد في حياتهم، ورفضوا البطالة، ونزلوا ميادين العمل. فالحديث المزعج ولكن لا بد أن يقال هو عن شبيبة اختاروا عكس الأولين فهم بطالون لا في مصلحة دين ولا دنيا، مترفون لأنفسهم، فتحوا أفواههم ومدوا أيديهم يطلبون عيش الكرماء وهم لؤماء، احتقروا الأعمال الشريفة، وأهملوا التزاماتهم الاجتماعية و الدراسية، فحياتهم عبث، وأوقاتهم هدر، وطموحاتهم لا شيء! يصبحون ليمسوا، ويمسون ليصبحوا، فهم أوعية لكل ساقط من الفكر والعمل، عبء على والديهم، محل ريبة من جهات الأمن والشرط، إذا رأيتهم تسوءك أشكالهم، وإن يقولوا ترثي لحالهم، يحسبون أنفسهم علية الشباب، وزين المجتمع. هؤلاء من بلايا الحياة، ومن نتاج الترف، وانفصال الآباء عن الأبناء.

وأظن أن النظرية التي تقول: دعهم فإنهم مراهقون أنها من أكذب النظريات، وفي دراسة تربوية يؤكد المختصون أن هذه النظرية فيها مسحة من المجتمعات الغربية التي لا تقيم للدين والمروءة اعتباراً. أما المجتمع المسلم فإنه يرعى النشء من بداياته بل إن الجنين في بطن أمه له حكم وأحكام فأي يعجز عن رعاية مرحلة من مراحل عمر الإنسان! إن ديننا بكماله يقول للمربي لا تدع المراهق بل هاته وادعه، وارفق به وارحمه، وأعطه حظاً كافياً من الحوار، والمجادلة بالتي هي أحسن . بين له أن شكله الظاهري عنوان فكره وعقله الداخلي، وقل يا بني لباسك هو للناس ليس لك وحدك فالبناطيل ليس لباس مروءة في مجتمعنا، والضيق منها عار من ألبستنا، والمزركش وما فيه كتابات وصور ورسومات عيب عندنا، ثم ما ارتفع فوق الركبة فهذا لا يجرؤ عليه إلا من لا يستحي من القوم لأنه مظنة أبداء العورة التي سترها فطرة قبل أن يكون شرعه، والتساهل فيها ذنب عظيم، وسبب للفساد.

يا بني الله جميل يحب الجمال، ولكن لا تخلط الجمال بالميوعة، وفرق بين تطبيق السنة بالنظافة وطيب الرائحة وبين التخنث والعناية بالبشرة كما هي حال البنات، فالذي كرمك بالرجولة لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، عنايتك بشعرك وتعاهدك تسريحه في الجملة مباح ولكن لا تغالط نفسك بقصة تعرف من تقصد بها، وإطالته تدرك ما وراءها ثم تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذا شعر ولم يحلقه إلا في حج أو عمره فصدقت، ولكن شعره لم يكن همه الأول، ويمضي فيه الوقت الطويل ادهانا وترجيلاً، وإنما وضع شعره مجاراة لقومه، والعرب كانوا يبقون شعورهم . ثم يا بني لم يقل أحد إن أبقاء شعر الرأس واجب بل هو مباح أو سنة عند بعض العلماء، فكيف حرصت عليه ثم أعملت الموسى بجد واجتهاد في إخفاء لحيتك من وجهك،وهي محل الأمر وتوفيرها من الفطرة، وهي جمالك الحقيقي.

أيها الأبناء أذية المؤمنين قال الله تعالى فيها (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) فالتعرض للمؤمنين بأذية مسموعة وأصوات منكرة حينما تسمع المارة أسواق الموسيقى من سيارتك تعلمهم أنك تعصي الله فلا تحفظ سمعك عن حرماته. أو تزعجهم بأصوات صاخة من دراجتك، أو سيارتك فتعرض نفسك لدعوة من مسلم توافق وقت إجابة فتحور عليك. وطرقات الناس ومسيرات المتزوجين ليس محل استعراضك أيها البطل فتعيقهم، وأنت من أنت عند نفسك، فاحذر يا بني والسفه لا يقر في نظام ولا شرع.

وإننا نشد في عضد الجهات الأمنية من الشرط ورجال المرور ورجال الحسبة أن يردوا هؤلاء عن غيهم بقوة الأوامر، وسطوة السلطان.

أيها الولي: من العقل وواجب التربية أن تحفظ من تحت يدك في أوقات التجمعات الشبابية. فإذنك لأولادك وبناتك، أو خروجك بهم متفرجاً تكثير لسواد الفوضى، وتعريض لنفسك ومن معك لأذية رأيت مثالها أو سمعته في مناسبة سابقة فهل تعي ذلك؟! فاحمدوا الله على جمع الشمل، وحلول الأمن في زمن انفلت فيه الأمن في كثير من الدول، وضاعت هيبة الأمر والنهي، وانفرط فيه عقد الناس، وتسلط ظلمة على شعوبهم، فهم ينتظرون فرج الله ويسألونه العافية.

 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 01:56 صباحًا السبت 11 أكتوبر 1445.