• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 20-6-1433هـ بعنوان من أخبار عمر بن عبدالعزيز

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  8.5K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
إن الحمد لله ...

أما بعد:-

فتتوق النفوس إلى الشيء كلما قلَّ وجوده، وتطلب أخبار الأخيار إذا صال وجال الأشرار، وتشتاق إلى الهواء النقي في أجواء الغبار

كذلك الرجال كإبل مائة كثيرة عددها ولا تكاد تجد فيها راحلة تصلح للركوب والسفر عليها.

وهذه القلة هم الذين أثنى الله عليهم بقوله (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)

ليكن حديثنا عن رجل قضى نحبه، وطوى أيامه، ولكنه لم يطو ذكره الحسن، وسيرته العطرة والذكر للإنسان عمر ثان .

حينما يدرك الإنسان حقيقة الدنيا وسرعة زوالها، وقرب غيرها تتعلق نفسه بالباقية، وبزهد بالعاجلة تلك الزهرة التي مآلها إلى اليبس والذبول، وختامها السقوط والأفول .

(لاتمدن عينك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه)

أفصح صاحبنا عن شدة تجافيه عن دار الغرور، وتعلقه بدار الفرح والحبور حينما كتب إلى أحد عماله أما بعد: فإن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص !

إذن حديثنا عن علم من أعلام الزهد، ورجل من العباد بجد رخصت الدنيا بعينه لما علت همته، وقويت عزيمته إنه عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي القرشي يرجع نسبه من جهة أمه إلى عمر بن الخطاب عمر الفاروق .

فماذا نقول عنه ؟

وقصص الصالحين جند من جنود يبعث الله بها الهمم الهابطة، ويحيي بها القلوب الميتة، ويداوى به النفوس العليلة.

ولد في المدينة النبوية سنة ثلاث وستين من الهجرة، ونشأ في بيت علم وسنة، ولم يزل يأخذ من الأمور أعاليها فدارت الأيام فإذا هو أمير عليها ثم دارت أخرى فإذا المدينة من إماراته ومملكته فهو الخليفة على المسلمين، وصار يدعى بأمير المؤمنين قال لزوجته فاطمة بنت عبد الملك : "يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق للإمارة فتولت الإمارة فارتفعت همته فقال لها يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق للخلافة فتولى الخلافة فقال لها يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق للجنة" ونحن نسأل الله له الجنة .

ومع ذلك لما بويع رحمه الله بالخلافة فقام ليلقي أول خطاب له شعر بالمسؤولية وعبر عن خوفه من رب البرية فقال بعد أن صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه، قال: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر على غير رضاً مني ولا رغبة ولا مشورة المسلمين وإني قد خلعت مافي أعناقكم من بيعتي فاختاروا أحداً غيري.

فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجةً بالبكاء قد اخترناك يا عمر ورضينا بك . فبكى وقال الله المستعان فأخذ يوصيهم بتقوى الله وقال لهم: أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له على أحد، أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .

هذه خطبته الأولى فهل هي قول بلا فعل ؟

هل هي مقولة من يثبت قدميه حتى يستوي على سوقه، ثم يدير ظهره ويقلب لشعبه ظهر المجن ؟

لا والله ... فعن عطاء بن أبي رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز :أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه، سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عن خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.

الله أكبر .

إذن المتجاوز في ملكه، والمتغافل أو الغافل عن أمور رعيته يجب أن يرحم نفسه ويبكي عليها .

تولى الخلافة وسارت دفة الحياة في عهده وشعاره العدل الحقيقي فبالعدل قامت السموات والأرض والعدل أوله مع النفس ثم الأقرب فالأقرب .

وإليك شاهد ذلك من أخبار عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة استدعى زوجه فاطمة بنت الخليفة و أخت الخلفاء وقال لها يا فاطمة إني بعت نفسي من الله فإن كنتِ تريدين العيش معي فحي هلا، وإلا فالحقي بأهلك وهذه الحلي التي تلبسينها تعلمين من أين أحضرها لك أبوك؟ رديها إلى بيت المال!

فوالله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار واحدة .

ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله له ما بينه وبين الناس.

فكيف ردت زوجه عليه؟

فتح الله على زوجته كما فتح عليه فلم تقبل مالا لا حق لها فيه، فقالت: وهي الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها، والحياة حياتك يا عمر .

فالعدل يبني البيوت لا يهدمها، والسكينة تحل في أفرادها إذا استكانوا لربهم

(والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)

أهدى إلى عمر بن عبد العزيز من بعض أقاربه تفاحاً فاشتمه، ثم رده على المهدي، وقال له: قد بلغت محلها فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية وهذا رجل من أهل بيتك فقال له عمر: إن الهدية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأما نحن فهي لنا رشوة .

يؤتي الحكمة من يشاء! من يعقل هذا ؟

أيعقلها المسؤلون الذين يسمون الرشاوي أتعاباً لهم، ومقابل خدماتهم فأكلوا ما نالته أيديهم، وتناولوا ما بعد برماحهم (ليعلم الله من يخافه بالغيب) فورمت بطونهم وتفتقت جيونهم فلا مجال فيها لمزيد و هم على طريقهم لا ارعواء ولا محيد .

هذه الطائفة لا مجال لها في صحبة عمر بن عبد العزيز بل لا مجال لها في السياسة الشرعية والدولة الإسلامية .

ولما كانت سيرته كذلك بارك الله في موارد الدولة، وحلت مشكلة الفقر ونال كلا نصيبه أوفر ما يكون وأحس الناس بعدم الطبقية والمحاباة القرابية والوساطة الجاهية .

فكانت الصدقة في عهد عمر بن العزيز لا تجد من يأخذها، والمتصدق أهمته صدقته .

وصدق الله (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) .

(وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا)

هذا غيض من فيض من أخبار الملك العادل الذي أعاد للأمة خلافتها الراشدة وسما بملكه ما استحق أن يصفه سلف الأمة بخامس الخلفاء الراشدين وكل هذا في مدة لم تتجاوز ثلاثين شهراً .

فأين الملوك الذين ساسوا شعوبهم عقوداً متوالية فذاقت وبال أمرها، وكان عاقبة أمرها خسراً قربهم أعداؤهم ولفظتهم شعوبهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

فالله أحسن عاقبة أمرنا في الأمر كله ...





الحمد لله ...

إن من سمعت سيرة عدله وحرصه على نقاء ملكه لم يلق ترحيباً من كل أحد، فأصحاب المصالح يزعجهم الورعون، ويكدر عليهم الناصحون، لأن نزاهة العاملين في مصالح الأمة يبين الدنس الذي في ثيابهم، والنقاء الذي ينادي به الغيورون سوف يوضح ما تلوثت به أيديهم فلا تزال حربهم ضد الناصحين لأنهم لا يحبونهم، وقد قال صالح لقومه (ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) فهذه سنة ماضية، والمرجفون في المدينة لهم أحفاد في كل مدينة، والذي يخذلون المشفقين على الأمة .

أأنتم تصلحون الكون ؟

لست عليهم بمسيطر ؟

عليك بخاصة نفسك؟

كل هذا من البلاء ليميز الله الخبيث من الطيب !

والذي يعملون أقلامهم ويؤز بعضهم بعضاً لا يهولنكم شغبهم ولا يزعجهم نهيقهم فإن أنكر الأصوات لصوت الحمير، وقد قيل: إن الصراخ بقدر الألم.

وشدة فحيحهم وهم يتجاذبون الستر الذي يخشون أن يسقط من أيدهم فتنكشف عوراتهم، وترى سوءاتهم، لن يدوم .

فأين رموز الضلال الأولون، وأين المتنكرون لدينهم ولمصالح أمتهم ؟ ذهبوا !

والعاقبة للمتقين

(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه) .

أيها الموفقون في سيرة عمر بن عبد العزيز مثال واضح للمناوئين للحق والمضادين للمصلحين فيسجل المؤرخون أن هؤلاء المعادين قد استأجروا خادم عمر بن عبد العزيز ليضع السم له فكأن الله ألهم عمر ذلك فاستدعى خادمه فقال له : أسألك بالذي يجمع الناس ليوم لا ريب فيه أأنت سممتني في الطعام ؟

قال الخادم : إي، والله . قال : فكم أعطوك على ذلك ؟ قال : ألف دينار .

قال : اذهب فأنت حرٌ لوجه الله, والله يحب المحسنين .

دخل عليه الناس يعودونه فكان كلما عاده أحد قال له: اعف عني , عفا الله عنك .

فلم يزل يعاني من مرضه وأثر هذا السم حتى جاء ضحى يوم عيد الفطر حلت بعمر سكرات الموت التي لا بد من حلولها.

فأوصى رحمه الله قبل وفاته إذا غسلتموني وكفنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي فإن ابيض فاهنئوا، وإن اسود فويل لي ثم ويل لي .

يقول رجاء بن حيوة: فكنت فيمن غسله وأدخله في لحده وحللت العقد من كفنه ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو كالقراطيس بياضاً, بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .

لقد جاءت جاءت سيرته رحمه الله مفتتحة بالخوف من الله مختومة بالإنابة إليه

من آخر ما كلامه رحمه الله:

"إنكم لم تُخلَقوا عبثًا ولن تُتركوا سدى وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحُرم الجنةَ التي عرضها السماوات والأرض، ألا وأعلموا أنما الأمان غدًا لمَن حذر الله وخافه، وباع نافدًا بباقٍ، وقليلاً بكثير وخوفًا بأمان ألا ترون أنكم في أسلابِ الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين؟

وفي كل يومٍ تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله، فتغيبونه في صدعٍ من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدَّم غني عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه، وأيم الله إني لأقولكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي" .

ثم رفع طرف ردائه، فبكى حتى شهق

وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت كلماته هذه آخر خطبة خطبها لم يخطب بعدها حتى مات

رحمه الله.








للإستماع هنا


التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 01:25 مساءً الجمعة 17 أكتوبر 1445.