• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 3-11-1435هـ بعنوان شؤم الظلم

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  3.5K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

إنَّ الحمد لله نحمده ،

 

أما بعد :-

 

فإنَّ من الأمور أموراً يقِفُّ الشعْر حين ذكرها، ويقشعر الجلد عند ورود اسمها لكونها مخالفة للفطر، ويجمع على إنكارها المنصفون من البشر، فكيف إذا كان هذا الأمر المنكر واقعاً تشاهده، أو طبعاً لبعض النفوس تزاوله، وتناهى لسمعك جرأة أحد عليه، ووقوع في بعضه أو ما يوصل إليه.

عباد الله: لقد حرَّم الله الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً لعظم أثره، وسوء عاقبته.

يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا). فالظلم خراب الديار، وعاقبته خسارٌ، وبوار. فالظالم قد عرَّض نفسه لمقت الله وانتقامه (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ), (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ), (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

أيها الإخوة: شهركم هذا شهر ذي القَعدة أحد الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ), وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأربعة بأنها ذو القَعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهي ثلاثة متوالية، ثم رابعها رجب. فالعبادة يزيد فضلها في الأشهر الحرم عن غيرها، كما أنَّ المحرم يزيد تحريمه، ويكبر إثمه إذا وقع في زمن محرم أو مكان فاضل. (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ), وإنَّ أعظم الظلم الشرك بالله كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)؛ فمن أشرك بالله شيئاً فإنَّ الله قد حكم فيه حكمه (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ), وقال تعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).

ثم بعد الظلم بالشرك الظلم الثاني ظلم العباد بعضهم بعضاً وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.

بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم ترويع المؤمن والإشارة إليه بالسلاح سبباً للعنة الملائكة حتى ينزِعَ؛ ففي صحيح مسلم: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» رواه مسلم.

عباد الله: إنَّ هذه المظالم لا تمحى إلا بالخروج منها واستحلال أربابها، وهذا النوع هو الذي تخَّبط فيه كثيرٌ من الناس واستهان فيه آخرون. فاستحلَّ قومٌ أموال قومٍ ظلماً وعدواناً فجحدوا ديوناً عليهم، وتلاعبوا في أموال ولُّوُّا عليها، وماطلوا في أعمال أو مقاولات أسندت إليهم. ومن أجل هذا أكلت الرشوة، وزورت أوراق، واستبيح الكذب، وقطعت أرحامٌ، وتخاصم الآباء والأبناء، وصدق الله العظيم (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فأتي الظالمون من حيث لم يحتسبوا. (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). وإنَّ من الظلم ما يقع بين الزوجين، فتسلط أزواجٌ قلَّ خوفهم من الله فظلموا نساءهم تارة بمنع ما أوجب الله عليهم من النفقة فلم يعطوا ما يكفي لمعاشهم ولباسهم وقد أنعم الله عليهم، وربما ادعوا القلة وهم ينفقون على أنفسهم وأصحابهم وجلساتهم وأسفارهم أضعاف ذلك مضاعفة. و(كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوْتُ). وتارة بأكل مال لزوجته ادَّعى أنه حافظ له، قيِّم ناصح عليه ثم إذا طولب به قامت قيامته، وفجر في خصومته حتى أصبح الظالم مظلوما بحدة لسانه، وقوة مقاله. ومما يؤسف له أن تجرأ بعض الأزواج على مرتبات زوجاتهم مدرسة أو غيرها في أمور تخالف الرجولة، وعيب في المروءة فمرتب الزوجة حق لها لا يحل لزوجها قرش منه إلا بطيب نفس منها، ولا يجوز أن يضارها في عملها لتفتدي ضرره بجزء من راتبها والإثم أشد إن كان عملها قد شرط عليه في عقد نكاحها وقد دخل على بينة من أمرها. ويزيدُ الظُّلم ويتبن ضررُه إن أعطى إحدى زوجتيه وفضلها على الأخرى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ) رواه أبو داود، وغيره، وقال ابن حجر: سنده صحيح. ومن ظلم الزوجات والأولاد الذي تشكو منه بعض البيوت إضاعة القوامة وهجر البيوت إلا لنومٍ أو أكل ففقدت بيوتهم استقرارها، وفقد أهله أهم ما يجب على وليه وهو رعايته، وتربية السفهاء فيه.

ولقد كان بعض أرباب البيوت عفا الله عنَّا وعنهم - يذهب الأيام المتوالية والليالي المتتابعة عن بيته الذي فيه أولاده الصغار، وزوجته المسكينة، وهم يجدون منَّة من جيرانهم ومعارفهم في شراء خبز البيت، ومستلزمات الحياة، بل ربما لحقهم خوف من ذهاب راعيهم وغياب حاميهم، وحجة هذا الأب أنَّه مرتبط في مصالحه، وله التزامات مع رفاقه. وهو يتقرب بعمله هذا لأصحابِه ورفقائه الذين طلب رضاهم بسخط الله والتفريطِ فيما أوجب الله عليه. (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

قال عمر بن عبد العزيز: "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله تعالى عليك".

أيها الإخوة: على مستوى العمال والكفلاء تشهد الساحة تعسف بعض الكفلاء حيث زين لهم الشيطان أعمالهم، واتخذ بعضهم هؤلاء المكفولين فرصة للبيع والشراء واستغلال ضعفهم فهو لم يؤمن له عملاً ولم يسرحه بإحسان فهو يبالغ في تعويض نقل الكفالة. ناهيك عن ضعف بعض النفوس فصار الاتجار بالفيز بضاعة لهم يخرجون الفيز الكثيرة، بطرق ملتوية ثم يبيعونها معتذرين لأنفسهم أنهم محتاجون لذلك ويرغبون قضاء ديونهم، وتحسين أحوالهم المعيشية، وهؤلاء مع مخالفتهم لأنظمة الدولة وعبثهم بالنظام لم يقضوا ديوناً، ولم يحسنوا معيشة، وإنما هم في مكانهم يراوحون وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة أن الاتجار بالفيز أكل للمال بالباطل. حتى صار بعض هؤلاء المكفولين من العمال يطوفون على الناس يسألونهم صدقة أو زكاة خوفاً من الكفيل المتسلط الذي أشهر سوط التسفير والخروج النهائي. والكفلاء مع مكفوليهم أنواع ثلاثة منهم المحسن الذي كان على الوضوح مع نظام الدولة وعلى الإحسان مع مكفوله (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).

ومنهم المقتصد الذي حاول أن يخرج منها لا له ولا عليه.

وأما القسم الثالث فهو الظالم لنفسه. فهذا هو الذي عليه الخوف، ومنه الخوف إلا أن يتدارك نفسه، ويتقي الظلم قبل أن يتورط في شيء يجد حسرته في الدنيا قبل الآخرة.

اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا، و من شر الشيطان و شركه و أن نقترف على أنفسنا سوءا أو نجره إلى مسلم.

أقول قولي هذا ...

 

 

 

 

 

إن الحمد لله ...أما بعد:-

فالظلم الثالث: فهو الظلم الذي يظلم الإنسان فيه نفسه فيقع فيما حرَّم الله عليه، بقوله، أو فعله، أو قلبه

أو يفرط فيما أوجب الله عليه (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ), وهذا النوع هو الذي أقلق العارفين بالله فطلبوا سرعة الخلاص منه، فظلمهم لأنفسهم أفقدهم طيب العيش، وطمأنينة الحياة، ونزع بركة يومهم، وأفسد عليهم أمزجتهم، وفرطت من أيديهم أموالهم، ونفر منهم أزواجهم وأولادهم! فما أقبح ظلم الإنسان نفسه بمعصية الله، وإن استمر على ظلمه لنفسه فيخشى أن يضله الله على علم (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

فاتقوا الله عباد الله: واحذروا الظلم قليله و كثيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} متفق عليه.

وصدق الله العظيم فكم من أناس ظلموا العباد وأضاعوا حقهم، وهتكوا أعراضهم وجحدوا أموالهم فما لبثوا أن أصيبوا في أنفسهم وأموالهم وأهلهم وأولادهم.(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ). رواه الترمذي، حديث حسن

ومن أجمع الأدعية ما أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر حين قال له -رضي الله عنه علمني دعاء أدعو به في صلاتي، ولمسلم وفي بيتي: قال: (قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) متفق عليه.

 

أيها الإخوة: تسلط الأعداء على كثير من الشعوب المسلمة أصبح سمة ظاهرة في هذا العصر (وما ربك بظلام للعبيد) .

 

في بلاد الشام والعراق وقبلهما ومعهما في فلسطين وبلاد غزة، والبلدان كثيرة، ثم تلك الإجرام الذي يمارس باسم الدين من طائفة الخوارج ظلموا الناس وأفسدوا الجهاد الصحيح، وأظهروا الإسلام بمظهر القتل والدماء، وتصفية الشعوب إلا أن يكون على ضلالهم .

 

فنسأل الله أن يرد كيد الظالمين في نحورهم وألا يسلطهم على مسلم وألا يظهر لهم دولة ولا يرفع لهم رآية .

 

اللهم انصر المظلومين في ...



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:40 صباحًا الأربعاء 15 أكتوبر 1445.