• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 23-11-1437هـ بعنوان: أصحاب الجنة وأثر النية

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  3.3K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

لحمد لله رب العالمين ، أعطى ليميز الشاكرين ، ومنع ليرفع درجة الصابرين . أحمده وهو للحمد أهل ، وأشكره وهو المتفضل عزَّ وجل وأشهد ألا إله إلا الله قسم الرزق وقدر الأجل . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله استعاذ بالله من العجز والكسل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه اجتهدوا في عبادة ربهم وأحسنوا العمل . أما بعد :- فسورة من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فهي نازلة في مكة في الفترة الأولى من الدعوة . ذكر الله في هذه السورة قصة قوم ابتلاهم . نعم اختبرهم !! اختبرهم بالعطاء !! فلم يعرفوا قيمة النعمة ، ولم يراعوا حقَّ المنعم . هم قوم يسكنون جنوب جزيرة العرب ، زمنهم في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . ابتدأ الله قصتهم في سورة القلم بقوله : (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) أي : أن الله ابتلى كفار مكة واختبرهم كما اختبر أصحاب الجنة أصحاب البستان . فما قصتهم ؟؟ أبناءٌ ورثوا جنة بستاناً عن أبيهم ، وهم ثلاثة قاله ابن عباس ، وقيل : أكثر . أما أبوهم فهو شيخ كبير ورجل صالح . غرس بستاناً بالنخيل والزروع فأينع بستانه ، وكثر نتاجه . فكان يأخذ منه قوت سنة ، ويتصدَّق بالباقي ، وكان ينادي الفقراء وقت الحصاد والصِّرام ، وكان من خبره أنه يبسط بساطاً فكل شيء خرج عنِ البِّساط فهو للمساكين ، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر ، وكل شيء تعداه المنجل وهو المخلب عند قطاف العنب فهو للمساكين . فكان يجتمع من ذلك شيء كثير فانتعش في وقت أبيهم كلُّ مسكين ويتيم وأرملة . فالمحتاجون مغتبطون بصدقته يعيشون في ظل معروفه لا يجدون من مكرمهم مناً ولا أذى وتلك أعلى الصدقة . وتأتي على هذا المحسن سنة الله في خلقه ، يأتيه الموت غير آسف على دنياه ، مؤملا قبول إحسانه عند مولاه . (وما تنفقوا من خير يعلمه الله) (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً) . يموت الأب المحسن فيرثه أبناؤه . فما حال هؤلاء الورثة ؟ شر حال . شر خلف لخير سلف . قال ابن كثير : فلما مات وورثه بنوه قالوا : لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا . فحينئذ تأتي النية الفاسدة في الليلة المظلمة ويأتي القسم الآثم والحلف على منع الخير من غير استثناء فأقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون ) عزم مؤكد ينم عن رغبة جادة في الاستئثار بنتاج بستانهم وثمرة جنتهم منهين بذلك عادة خير كان عليها أبوهم ، فيابؤس المحتاجين الذين طالما أغناهم أبوهم ، ويا شدة لوعتهم وأعظم بمصيبتهم . ليصرمنها مصبحين !! أليس الصبح بقريب !! نعم جاء الصباح ، فساء صباحهم بعد أن ساء ليلهم بخبث نية لهم . جاء الصباح !! فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين لبستانكم قاطعين ثمرتها . فانطلقوا مسرعين خشية المشاركين انطلقوا وهم يتخافتون يتشاورون ويتواصون بينهم ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين فهذا عزمُهم الذي لم يستثنوا فيه ظانين أنهم على حرد أي : على منع لحق الله قادرون جازمون أنه لن يحول دون مرادهم حائل فسوف يَجُدَّون إلى مستودعاتهم ومخازنهم يحملون . ولكنهم غفلوا عن مراقبة من يعلم السِّر والنجوى ، ومن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . ولم يدروا أنَّ الله بالمرصاد ، وأنَّ العذاب سيخلفهم عليها ، ويبادرهم إليها (فطاف عليها طائف من ربك) أي عذاب نزل عليها ليلا (وهم نائمون) فأبادها وأتلفها فأصبحت كالصريم كالليل المظلم وذهبت الأشجار والثمار . كلُّ هذا وهم نائمون وفي مضاجعهم يتقلبون ، وصدق الله (ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون) . فما حالهم بعد عقوبة الله (فلما رأوها) سوداء محترقة قالوا من شدة حيرتهم وعظم مفاجأتهم إنا لضالون فهذا ليس بستاننا ، وقد ضيعنا الطريق . ولكنها تسلية المفاليس ، ولا بدَّ من مواجهة الحقيقة وإن عظم الثمن فرجعوا إلي أنفسهم وتلمسوا بقية عقلهم فقالوا : بل نحن محرومون ، من حرمهم . اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت . حرمهم ربُّ العالمين رب المستضعفين ورب المحتاجين الذين نويتم حرمانهم فكان حرمان الله لكم أسرع وأوجع فهي إذن عقوبة (ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد) . (وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم) . ومن رحمة الله بهؤلاء أنها عقوبة نافعة ، وتنبيه أدَّى مفعوله فبادرهم أوسطهم أي أفضلهم ، قال : ألم أقل لكم لولا تسبحون) أي تنزهون الله عما لا يليق به وتتركون ظنكم أنكم قادرون على الحرمان للمساكين ، وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئة الله . فلما ذكَّرهم أخوهم اعترفوا بذنبهم وتابوا إلى ربهم قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . ثم بدأ تلاوم التائبين (وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا ياويلنا إنَّا كنا طاغين) متجاوزين حدود الله التي حدَّ لنا غفلة منا وجهلاً بأنفسنا وبما يعاقب به أمثالنا . فهرعوا إلى ربهم راغبين أن يصلح حالهم وأن يبدلهم خيراً من جنتهم ، ومن دعا الله تائباً راغباً فالله أكرم من عبده فيجيب سؤله ويعفو عن سابقته . فاللهم أصلح حالنا … الحمد لله ،، أما بعد :- فإنَّ من أعظم دروس هذه القصة وعظاتها التحذير من نية منع صاحب الحق حقَّه . فالغني الذي نوى ألا يعطي الفقير حقه من الزكاة الواجبة والمستدين الذي نوى ألا يسدد ما اقترضه . والمستأجر الذي نوى ألا يوفي العامل أجرته أو صاحب العقار حقَّه سواء استأجر بيتاً أو محلاً أو فلاحة ، أو نوى أن يعطيه البعض وقد بيَّت أنه سيخلفه في بعض الأجرة الباقي كل هؤلاء متوعدون بعقوبة الله تعالى والله تعالى (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر) وإنَّ من أعظم العقوبات التي يعاقب الله بها عبده العاصي عقوبة الحرمان إنَّا لمغرمون بل نحن محرومون . فالفقر لمن لم يقم بشكر نعمة الغنى عقوبة . وفقد الأهل والأصحاب لمن لم يرع حقَّ الله فيهم عقوبة والمرض بعد الصحة لمن لم يستغلَّ صحته في طاعة الله عقوبة . وهكذا الخوف بعد الأمن ، والشغل المقلق بعد الفراغ فاحذروا عقوبة الله بالحرمان بعد العطاء . تعرفوا على نعم الله لديكم لتقيدوها بالشكر .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 07:52 مساءً الأربعاء 15 أكتوبر 1445.