• ×

د.عبدالرحمن الدهش

2- عظمة نبوية

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  1.1K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله رب العالمين ، لك اللهم الحمد لا نحصي ثناء عليك ، جعلتنا مسلمين ، وأكملت لنا بفضلك معالم الدين، وشرفتنا فجعلتنا من أمة سيد المرسلين .

وأشهد ألا إله إلا الله إله الأولين والآخرين .

وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، اصطفاه لحمل رسالته ، وتأدية أمانته ، فبلغَّ الرسالة وأدَّى الأمانة ، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين فصلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ...

أما بعد :-

فإنَّ الله هدانا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته ، وبمنَّة بعثته خير الدنيا والأخرى ، وكان من ربه بالمنزلة العليا، أوجب على العباد تعزيره وتوقيره .

والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عن العظماء .

والحديث عن العظماء تقف دونه العبارات ، وتتلجلج فيه الخاطرات ، فتكفى العظيمَ عظمته ، وينبئ عن كمالاته هديه وسيرته .

وقفاتنا أيها الإخوة في هذه الكلمات من غير إحاطة ولا قريب منها حول من عصمه الله من الناس ، ودافع عنه فلن يصل إليه منهم بأس .

نعم أوذي في الله ، شجَّ وجهه ، وكسرت رباعيته ، وتسلط عليه سفهاء من قومه ، رمي بالحجارة حتَّى أدمي عقبه ، وأراد أعداؤه ، حبسه أو قتله أو طرده (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) .

تطاول عليه أحفاد القردة والخنازير فخططت يهود لقتله ، ودسَّت يهودية سُمَّا في لحم شاة ففضحها الله وحمى نبيه من ضر سمِّه

كلامنا أيها الإخوة عن نبي حنَّ إليه جذع نخلة وعرفه الشجر، وأشرقت الأرض بطلعته وسلَّم عليه الحجر .

أيها المسلمون : إنَّ نبينا الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم أدَّبه ربه فأحسن تأديبه ، صنعه على عينه ، بعد أن اختاره على علم يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم رقم (2276) .

فهو خيار من خيار ، شرح الله صدره حساً ومعنى ، فهو المثال الصادق لمن عرف حقيقة الإيمان ، حيث كان خلقه القرآن .

خيَّره ربه بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملِكاً رسولاً .

فاختار العبودية مع الرسالة ، اختار الآخرة على الدنيا ، والباقية على العاجلة

فكيف كانت حياته ؟!

كانت حياته كلها في عبادة وتعليم ، وجهاد وتنظيم أمضى أربعين سنة قبل البعثة لا يعرفه قومه إلا بالصادق الأمين ثم أتاه الروح من أمر ربه (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) فنبئ بـ(إقرأ) وأرسل بالمدثر فأنذر عشيرته الأقربين ثم عمَّ قومه أجمعين وبقي في مكة داعياً إلى ربه ثلاث عشرة سنة ، وهو في محاجة قومه ينذر ويبشر ، ويلين ويغلظ

فلاقى هو وأصحابه من أذى المعاندين للدعوة الشيء الكثير ، استهزئ به ورمي بالتهم ، حاصرهم المشركون في شعب أبي طالب حتى أجهدهم الجوع

توفي عمه أبو طالب وزوجه خديجة وهما عضداه في الدعوة فصبر واحتسب .

حتى كاده قومه فأذن له ربه بالهجرة ومفارقة أهله وبلده فخرج مهاجراً خائفاً يترقب إلى المدينة ، خرج حيث أمره الله إلى قوم بابعوه على النصرة ، والحماية مما يحمون منه أولادهم ونساءهم فأظهره الله وكتب له تمكيناً في المدينة وهو مع هذا لم يفارقه البلاء والتمحيص له ولإتباعه فهو بين أذية المنافقين ومن ورائهم من اليهود الحاسدين ، وبين مناوشات المشركين وتحزبهم حرباً لرب العالمين .

كل هذه وغيرها لم تفت في عزمه بل كانت حياته كلها جدُّ ونشاط لم يعرف العجز إليه سبيلاً ولا الكسل لنفسه مدخلا .

فإن عرجنا على عبادته صلى الله عليه وسلم فإنك تسمع عجباً ، كان يقومُ مِن الليل حتى تتورَمَ قدماه ، ويُصَلِّي مواظباً في يومِهِ وليلته على أربعين رَكْعَةً لا يَخُلُّ بها .

منها سبعةَ عشرَ ركعة فرضاً ، والباقي اجتهاداً وتزوداً في طاعة الله ، عشر ركعات ، أو ثنتا عشرة سنة راتبة ، وإحدى عشرة ، أو ثلاثَ عشرةَ ركعةً قيامه بالليل ، وما زاد على ذلك فعارِضٌ غيرُ راتبٍ …  زاد المعاد (1/327) .

وأما بذله للمال وتفريقه للصدقات فكان يبادر أصحابه بما يأتيه من الصدقات والغنائم يوزعها عليهم ويبالغ في عطاء من يتألفهم . وهو القائل عليه الصلاة والسلام " اليد العليا خير من اليد السفلى ، واليد العليا هي المعطية والسفلى هي الآخذة "

وأما الصيام فلقد كان يصوم حتى يقال : إنه لا يفطر .

وربما واصل الصيام فلم يفطر أياماً متواصلة مع نهيه أصحابه عن المواصلة شفقة بهم .

وأما الحج فلقد حجَّ تلك الحجة التاريخية وحجَّ معه أصحابه تلك الجموع الغفيرة بين يديه وعن يمينه وعن شماله ومن خلفه ما بين راكب وماش ، فعلمهم حجهم وقال : خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا . وقال في أعظم جمع " وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون " قالوا قد بلغت وأديت ونصحت " .

أما أخلاقه وجميل صفاته فقد زكاه ربه بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) فلقد كان أحلم الناس وأشجعهم وأعدلهم وأعفهم .

وكان غاية في التواضع وحسن العشرة يخصف نعله ويرقع ثوبه ، ويخدم في مهنة أهله .

وكان أشدَّ الناس حياء ؛ لا يثبت بصره في وجه أحد ، يقبل الهدية ويثيب عليها ، يجيب دعوة العبد والحر ، يغضب لربه ، ولا يغضب لنفسه ، يقبل عذر المعتذر ويمازح أصحابه ، ولا يقول إلا حقاً ، وكان لا يمضي عليه وقت في غير عمل لله تعالى ، أو فيما لا بدَّ له منه من صلاح نفسه فصلوات الله وسلامه عليه .

إنَّ من هذه بعض أوصافه حقُّ على النفوس أن تحبه فطرة قبل أن تحبه شرعه,

وأن تقدمه على كل أحد فليس قبل محبته إلا محبة الله الذي منَّ علينا ببعثته (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم)

وكيف لا تحبه وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) .

وكيف لا تحبه وهو رحمة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .

ثم لما بلغ أجله المكتوب شدّد عليه فعانى من سكرات الموت ما لم يعان غيرُه، ومع هذا في هذه اللحظات الحرجة كان يوص أمته ويحذرهم أن يتخذوا قبره مسجداً ، يحذر طريقة اليهود ، وأوصاهم آخر ما أوصاهم بالصلاة وما ملكت أيمانهم ، فكان يقول : الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ... ثم وافى ربه رافعاً بأصبعه شاخصاً ببصره راضياً مرضياً عند ربه صلى الله عليه وسلم

 

الحمد لله ...

أما بعد : -

فإن الحديث عن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم مناسب في كل وقت، فالحديث عنه عبادة، ومدارسة سيرته ذكر، والتأمل في منهجه يزيد الإيمان، ويحقق ما أمر به الرحمن (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) .

وإنه يجب على كل مسلم أن يحب النبي r محبة أعظم من محبته لنفسه ووالديه ، وولده ، والناس أجمعين .

فليس قبل محبة النبي r إلا محبة الله تعالى .

وإنَّ أثر هذه المحبة يكون باتباعه r ظاهراً  وباطناً ، في المنشط والمكره ، والعسر واليسر

)قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (

ولقد فهم الصحابة – رضي الله عنهم – المعنى الصحيح لهذه المحبة فأحبوه وعظموه تعظيماً يليق بمقامه آخذين باعتبارهم قوله r (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم )

ولقد بلغ من حبهم لنبيهم وحرصهم على متابعته أن سمت همتهم فتطلعوا إلى ما بعد حياتهم هذه وخشي أحدهم أنه لا يرى النبي r إذا دخل النبيُّ الجنة

تقول عائشة رضي الله عنها : جاء رجلٌ إلى النبي  r فقال : يا رسول الله إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي ، وإنك لأحبُّ إليَّ من ولدي .

وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبرُ حتى آتي فأنظرَ إليك ، وإذا ذكرتُ موتي ، وموتك ، عرفتُ أنك إذا دخلت الجنةَ رُفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيتُ ألا أراك ، فلم يردَّ عليه النبي  r

حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية  ) ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ( رواه الطبراني بسند لابأس به ([1]) .

ولم يتردد ربيعة بن كعب لما عرض عليه النبي  r أن يسأل ما بدا له .

فقال يا رسول الله : أسألك مرافقتك في الجنة

قال : أو غير ذلك ؟

قلت : هو ذاك !

قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ([2]) .

وسيرة الصحابة في امتثال أمر نبيهم وحرصهم على عدم مخالفته شيء عجيب ، وأكثر من أن يذكر .

بل إنَّ الصحابة الذين عذرهم الله في الجهاد لضعفهم وقلة

ذات يدهم لم يعذروا أنفسهم وتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .

فأين حال كثيرٍ من المسلمين الذين يصبحون ويمسون على مخالفة سنة نبيهم ، ثم يأتون بما يزعمون به تعظيم النبي r .

=وإن من البدع التي انشغل بها كثير من المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية على المستوى الشعبي والرسمي بدعة المولد. يعنون بذلك مولد النبي r،فيحيون أيام أول هذا الشهر ولياليه شهر ربيع الأول ويخصون ليلة الثاني عشر منه، ومحققو التاريخ لا يثبتون ولادته في الثاني عشرـ  فقيل: إن ولادته كانت في اليوم الثامن ، وقيل : في التاسع وقيل في السابع عشر إلى غيرذلك .

يحيونها مجتمعين على موائد ومآكل ومشارب يعدونها ويقرؤن في هذه الاجتماعات سيرة النبي r من كتب- الله أعلم بصحة ما فيها ، وينشدون القصائد في مدح النبي r ولهم في ذلك طرق وأساليب ، ناهيك عما يحصل في بعضها من شركيات وتوسلات محرمة ، وربما أمور أخرى لا يحسن ذكرها.

ويزعمون بعملهم هذا أنهم يحبون النبي r ومعظمون له ، وأن من لم يقم هذا المولد فليس من محبي النبي  r بل من مبغضيه .

(كبرت كلمة تخرج من أفواههم)

فإذا كان مقياس حب النبي  r هذه الموالد فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بل أين الصَّحابة كلهم ؟

بل أين القرون الثلاثة المفضلة عن إقامة هذه الاحتفالات التي لم تعرفها الأمة الإسلامية إلا في وقت ضعف من تاريخها أحدثها فيها الشيعة الفاطميون لإفساد دين المسلمين .

وربما التبلس على كثيرٍ من المسلمين كثرة من عمل هذا المولد واحتفل به فهذه كثيرٌ أو أكثر شعوب العالم الإسلامي تحتفل بالمولد ، ويتبادل الناس التهاني في هذه المناسبة ، ويجعلون لهذه المناسبة إجازات رسمية ، ويشاهد الناس عبر وسائل الإعلامِ وقائع هذه الاحتفالات ويرون ويشاهدون من يدعو إلى صحتها عبر القنوات ، ويُجَهل من أنكرها.

ولهؤلاء نقول وإن دعا من دعا فإنه ولله الحمدُ لا يزال هناك من ينكر هذه البدعة ويبطلها في كل عصر ومصر وفتاوى العلماء الربانيين الموفقين مسطرة في التحذير من هذه البدعة .

والنبي r قال (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي : مردود على صاحبه ، ولو حسنت نيته .

وأما كثرة من يحتفل بالمولد فالله تعالى يقول ) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله (  

فلم تكن كثرة العاملين دليلاً على صحة العمل .

عباد الله : إنَّ إقامة الاحتفالات لمولد النبي  r مع كونه بدعةً محرمة في الدين، وكلُّ بدعة ضلالة ، فيه مشابهةٌ للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح عليه السلام ، وقد نهينا عن التشبه بهم .

ولما علم أعداء المسلمين أنَّ البدعة في دين المسلمين لا تزيدهم إلا وهناً إلى وهنهم ، وفرقةً إلى فرقتهم ، لمَّا علموا ذلك لم تكن لهم أدنى معارضة في إقامتها في البلاد التي لهم يد عليهم ، بل ودعمها وتسهيلها .

ألا فليعلموا أنَّ تعظيم النبي r ليس بالبدع والمحدثات ، وأشد الناس تعظيماً للنبي r هم صحابة النبي r يقول عروة بن مسعود لقريش واصفاً حال الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم (والله لقد وفدت على الملوك قيصر وكسرى والنجاشي ، فما رأيت مليكاً يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً .

إن أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ([3]) .

ومع هذا التعظيم لم يجعلوا لمولده عيداً واحتفالاً .

فاعرفوا رحمكم الله كيف تعبدون ربكم ولا تتجاوز سنة نبيكم، واعرفوا ما ليس من دينكم … أقول قولي …

 

([1]) ينظر : حب النبي r وعلاماته د . فضل إلهي  

([2]) رواه مسلم (1/353) .

([3]) الفتح (5/330) .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 06:35 مساءً الثلاثاء 14 أكتوبر 1445.