• ×

د.عبدالرحمن الدهش

أزمة القدوات

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  931
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله رب العالمين ...
أما بعد :-
فجبل الله الناس يتطلع بعضهم لبعض ، ويأخذ بعضهم من أخلاق بعض ، وربما ردد كلماته من بعض كلمات اكتسبها، بل ها هي أفعاله تحاكي أفعال خل يوده، وصديق بأنس بصداقته، لماذا ؟ 
لأن الإنسان مفطور على حب التقليد، وكثيرًا ما يكتسب معارفَه وخبراته ومهاراته بالتقليد والمحاكاة .
بل إنَّ التقليد والإقتداء جزء لا يهمل من عملية نموه وتطوره ألا ترى إلى الطفل كيف يحاكي أباه ويتقمص شخصيته؛ لأن التعلم بالرؤية والمشاهدة أسهلُ وأيسر بل وأسرع، والنفس بطبعها تحبّ الحصولَ على الشيء بأسهل الطرق وأسرعها .
إنَّه لا يكمل للإنسان تدينه ولا يقبل منه عمله إلا يكون مقتديا بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم 
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) 
بل إنَّ من جعله الله قدوة للعالمين أمره أن يقتدي بمن سبقه من المرسلين (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)
وقال تعالى (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ)
(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) 
فالقدوة الحسنة ركن هامّ في كل مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين متعلمين فهم في أمس الحاجة لرؤية القدوات، وحينما يتطاول الزمن يحتاج الناس إلى قدوات يرونها في أوساطهم ويقابلونهم في مجتمعاتهم ومساجدهم بل وأسواقهم.
فالفضائل المنقولة، والأخلاق المسطرة تبقى آثارها محدودة فيمن وقف عليها ، ولهذا اقتضت حكمة الله  إرسال الرسل من البشر؛ ليكونوا منارات هدى وقدوات حسنةً لأممهم ، فهم التطبيق العملي لشرع الله في كل عصر، وتطبيقهم حجةٌ على العباد، ودليلٌ على واقعيةِ الشرع .
ولهذا تشمِّر النفوس للتأسي بالقدوات المرئية فهي ترى الصدق في أفعالها والتدين في هديها، والوقار في سمتها ودلِّها.
وتأمل !!
دليلا على أثر القدوة فيما وقع من الصحابة في يوم الحديبية، ففي صحيح البخاري قال عمر : فلما فَرغ من قضية الكتاب ـ أي: بنود الصلح ـ قال رسول الله  لأصحابه: (قوموا، فانحروا ثم احلقوا) ، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقَك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا " .
مبادرة تامة ومسابقة في التنفيذ لم تحدثها كلمات الحث إلا لما رأوا القدوة لهم أول المبادرين .
هذا في جيل الصحابة ، وهم الصحابة رضي الله عنهم !! 
أيها الإخوة: القدوات كغيرها من الطاقات تتوفر في زمن وتقل في آخر حتى تبلغ القدوة مبلغ الأزمة، ويصبح الرجل القدوة عملة نادرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة "
فتشتد الحاجة إلى القدوة كلما بَعُد الناس عن الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، وتتأكد الحاجة حينما يكب الناس على الدنيا، فهي حديثهم، وهي محل تعاونهم وتقاربهم وتباعدهم، وتصبح أمور الآخرة في معزل عنهم .
أيها الإخوة : ما منا معاشر الحاضرين إلا وهو قدوة لمن تحته قلوا أو كثروا، كبرت قناعتهم به أو قلت .
فالأب والمعلم قدوة، والمسؤل والموظف في مكنبة قدوة، وإمام الحي ومؤذن المسجد قدوة، ومعلم القرآن في حلقته، و الكفيل مع مكفوليه وعماله هو لهم قدوة، ومن يتردد الناس عليه وله اتصال بهم كصاحب الدكان، وبائع الخضار لن تُعدم فيهم صفات خير يأخذها الناس عنه ويقتدون بها . 
ولنبدأ بعميد الأسرة وربِّ البيت فأنت أيها الأب الموفق  قدوة لأفراد البيت ذكورهم وإناثهم صغيرهم وكبيرهم، فكيف تُرِي أفراد البيت نفسك ؟
فأعظم ما ينقل عنك وتقلد فيه هو تعظيمك لأمر الله فأفراد البيت معظمون لأمر الله ما عظمته أنت في نفسك فإن رأوا من أبيهم وقوفاً عند الطاعة حرصاً على الصلاة في الجماعة فأفراد البيت لا يقوى أحد منهم على تكاسل عن الجماعة وهو يرى الدرس العملي في بيتهم مرات عديدة .
ثم إن وفق رب البيت فعمر بيته بشيء من الذكر والصيام ومدارسة العلم ، ونوافل الصلاة والقيام فنعم الأب هو !!
وقل مثل هذا حينما يرون في أبيهم انتقاء في رفاقه فهو لا يصاحب الفاسقين ويتحرج من مجالس المغتابين فلا يخوض مع الخائضين، ولا يقع في لمز الصالحين، ولا يتفكه في التندر بأمور الشرع والدين .
يرونه متمثلاً قوله تعالى (ما يلفظ من قوله إلا لديه رقيب عتيد) .   
ويرون في أبيهم القدوة الصالحة في صلة أرحامه والقرب من أقاربه والإحسان إلى معارفه فتهون على أبنائه الصلة من بعده ومعه .
حينما يرون هذه المعاني الفاضلة، والقيم السامية في أبيهم فحينها طابت القدوة و حلَّت البركة، وتحول عاداته إلى تربية و دعوة . 
عباد الله : يقول الله تعالى (أفمن كان مؤمناً كمن قام فاسقاً لا يستوون) ، (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) 
فالأب الذي ألقى أمور بيته ومسؤوليته على من فيه فلا يراه أبناؤه إلا على أسوأ حال فهو الغضوب السابُّ الشاتم، دروسه لأبنائه تخلف عن الصلاة أو تثاقل لهما، عكوف على محرمات ومشاهدات وربما ناله حظ الشيطان فهو يعاقر مخدراً أو يشرب مسكراً !.
أما دروسه في معاملة أمهم وملاذهم الحاني فهو الوعيد بالطلاق المرات العديدة في اليوم الواحد، والتهديد بالطرد والتضييق، والتقتير في إعطاء النفقة الواجبة   
حياة يؤس وبيت جحيم ، ولكنها شجاعة عند قوم وقوة في الشخصية .
أيها الإخوة : إنَّ من رجالات القدوة الذين هم محل عناية طائفة من الناس إنهم المعلمون الذين يصبح الأبناء على رؤيتهم ويبقون زهرة اليوم في رعايتهم ، فهل أنت متهيؤ أيها المعلم لهذه المسؤلية فبعد غد فصل دراسي جديد ؟
أعانك الله وسددك . 
فالمعلم الذي يبدي تململاً من عمله أمام طلابه يخلق فيهم روح التفلت من المسؤولية وعدم المبالاة في إنجاح رسالته التعليمية، فإن أتبع ذلك بسيئ لفظ ومزاجية عصبية، وتحدث بفحش قول واهتماماته الدنية الشخصية فما أقبح أثره وأسوأ حاله، وأتعس بالجيل الذي سوف يخرج من بين يديه . 
أيها المعلم خلاصة وصيتنا لك وجامعها بعد الوصية بتقوى الله أن تعامل طلابك وتلاميذك كما تحب أن يعامل به أبناؤك .     فانظر ماذا ترى؟ .
فاللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا ...

الحمد لله ...
أما بعد :-
فإن من عباد الله من صاروا مباركين على أنفسهم وعلى من يتصل بهم فهم قدوات خير في مجالاتهم بل بلغ خير بعضهم أن اهتدى على يديه فئام من الناس، واستقامت أمورهم .
(ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)  
أيها الإخوة :
نحن في زمن طرحت فيه خفافيش من البشر لتكون قدوات لأبنائنا، ولعبت وسائل الإعلام وقنوات الرذيلة دوراً آثماً في ذلك حينما غالطت شبابنا وشاباتنا فيمن يستحق أن يقتدى بهم فعرضت سقط الناس من الممثلين والمغنين المخنثين ولاعبي الكرة من الكافرين والمتشبهين بهم عرضتهم على أنهم رموز للناس .
فاختلت مقاييس الفضائل، وضاعت معالم القيم، وتصور بعض الشباب والشابات أن الشهرة في مواقع التوصل، أو النكتة وما يظنه خفة دم، أو يتزي بزي مبالغ فيه أو يُري متابعيه ممتلكاته من سيارة أو ساعة أو نحو ظن بعض الناس وخصوصاً الفتيات أن ذلك  يكفي لاتخاذ هؤلاء قدوات يقتدى بهم!
والشباب تبنى أمورهم على البساطة إلا من وعى قلبه، فالإعجاب يقودهم إلى محبة بعض هذه النوعيات من البشر فيعبر المخدوع من هؤلاء عن إعجابه بتقليد من أعجبه بالمظهر واللباس !.
والكلام على تجاوزات أبنائنا الشباب يطول ويسوء .
ولكن الكلمة الناصحة الصادقة لا يعذر من منعها مستحقها بحجة أنها لا تنفع . بل – والله - إنها تنفع !!
ومن نفعها أن تبقى ثقلاً في قلب ذلك المقصر لعله يتذكر ولو بعد حين أو يخجل ، ومن أعظم نفعها ألا يندفع في سيئ مستقبلاً وإن لم يقلع عن سيئ حاضر !!
ألا فلنعد علاقتنا بأبنائها ولنحذرهم من قدوات التميع والانحلال كما كنا وما زلنا نحذرهم من قدوات الغلو والانغلاق .
(وإن عليك إلا البلاغ)  
فاللهم أصلح لنا ذرياتنا ... 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:16 صباحًا الجمعة 17 أكتوبر 1445.