• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة بعنوان تفاوت الناس في الأعمال الصالحة

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  9.5K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

نقاط الخطبة:

1 - التأمل في اختلاف همم الناس

2- لن تستطيع كل عمل تريده، وما تستطيعه لن تأتي به على وجهه.

3- قوي الإيمان وضعيفه كلاهما على خير .

4- من فتح له باب من العمل فليلزمه .

 

إن الحمد لله ... أما بعد :-

فإن مما يدركه الإنسان البصير حكمة الله في تفاوت رغبات الناس ، وتباين هممهم ومراداتهم والتأمل في ذلك لا يقل عظة وادكاراً عن التأمل في اختلاف ألسنتهم وألوانهم وإذا كان الله يقول في ذلك (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) فقد قال أيضاً في الذين يريدون العاجلة ومريدي الآخرة الساعين لها (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) أيها الإخوة : إن الإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها ضعيف في بدنه ضعيف في إدراكه وتصوراته فهو يريد كل شيء ولا يستطيع أن يدرك إلا بعضاً من شيء ثم هذا الشيء الذي أدركه لم يدركه على أتم صفة فيه وأعلى درجة منه وكلامنا هو في الإرادات الباقية التي تنفع صاحبها ويسر بلقياها (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً خير أملاً ) وفي الآية الثانية (وخير مرداً) . ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (استقيموا ولن تحصوا) ، (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) قضيتان يلفت إليهما كلام النبي صلى الله عليه وسلم فلن تطيق كل عمل وما تطيقه لن تحصيه أي : لن تتمه على وجهه ؛ ولأجل هذا الخلل في بنية الإنسان اقتضت حكمة الله التخفيف على عباده (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) إذن هي سنة إلاهية تنبه لها الصحابة رضي الله عنه فسألوا عن أفضل الأعمال وعن أحبها إلى الله وأقربها إليه . ثم تبع هذا تفاوت الناس في أخذهم من هذه الأعمال فمن الناس من فتح الله له باباً من الأعمال الصالحة فهي ديدنه ومنهم من فتح له بابان وثلاثة وأكثر فهو ينقل نفسه بين رياض هذه الأعمال وفي كل واحد من هؤلاء خير يقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) فقوي الإيمان على خير وهو في علية الناس وكتابه في عليين ، وضعيف الإيمان هو الآخر على خير بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم (ولعبد مؤمن خير من مشرك) ، ومع ذلك هو مطالب أن يزيد في إيمانه ، وأن ينشط في نفسه ، وأن يلحق بالسابقين من إخوانه (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) (والسابقون السابقون أولئك المقربون) . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) . إنَّ المسلم حينما يدرك أنه لن يستوعب كل أبواب الخير وإن حصَّل جملة منها ، فإنه يستمسك بالباب الذي فتح له على حدِّ ما يروى عن عمر رضي الله عنه (من بورك له في شيء فليلزمه) فمن الناس من يفتح الله باب الصلاة فهو ذو النفس التواقة إلى مناجاة الله في إطالة الركوع والسجود ، ينتظر الصلاة بعد الصلاة فقلبه معلق بالمساجد فإن حلَّ أو ارتحل فهو ينظر في ساعته متى الصلاة ؟ و آخر يفتح له باب في النفقات وبذل المال فهو يعطي من ماله ومن طعامه ولباسه ، راحته أن يجد فقيراً ينفعه أو مسكيناً يخفف مسكنته إن كان ذا مال فهو يبذل من ماله وإلا سعى له بمال من غيره وفي صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ ( وربما قال يعطي ) ما أمر به فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين ). فالسعي في أبواب الخير وتفقد المحتاجين وإيصال الصدقات والإعانات والنظر في أسر المساجين ومن ركبتهم الديون ومن ضيق عليهم المؤجرون همٌّ يجري في عروقهم ومتعة لا يعدلها متعة مع أهل ولا ولد . فلله درهم ما أكثر خيرهم وأعم نفعهم ، فعلى الله أجرهم . أما ذاك الثالث فلا تسأل عن أنسه بالصيام ومواصلة الأيام يصوم حتى يقال لا يفطر ينتظر الأيام الفاضلة كما ينتظر الغائب غائبه وفي الصحيحين من حديث عائشة أنَّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم \" أأصوم في السفر ؟ - وكان كثير الصيام قال : إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر \" لحظات الإفطار لا تقاس ببهجة الدنيا كلها ، فهو يصوم سراً وعلانية . ومع هؤلاء وبينهم قوم آخرون قد خصَّهم الله واصطفاهم ليكون أكنافاً موطئة لوالديهم فهم بررة بآبائهم وأمهاتهم يبذلون وقتهم وجهدهم ومالهم في الإحسان لهم ودفع ما يزعجهم فلا يرون راحة لهم إلا أن يرتاح والداهم ، فهم يسهرون ويسافرون ويهضمون أنفسهم لأجل والديهم . بلغ برهم مبلغ الخيال ، وانتهى إلى أعالي الجبال . فبرهم أرجى عمل عندهم . وفي قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة توسل أحدهم للخلاص من كربهم ببره والديه وأنه لا يقدم عليهم أهلاً ولا ولداً فصار بره من أسباب خلاص من الموت وخلاص رفاقه . ومن أعظم الفتوحات في الأعمال أن يفتح الله على بعض الناس حبَّ الخير للغير فهو الناصح للمقصر والمعلم للجاهل والمذكر للناسي فالمتجاسرون على حدود الله هم شغله الشاغل والمتورطون في المنكرات هم محل تفكيره يرى هداية الخلق بالكلمة المشفقة ، والقدوة الناصحة واجباً عليه ، وبيان شرع الله للغافلين بالحكمة والموعظة الحسنة غاية مراميه . فهذا وأمثاله قد ارتاضت نفوسهم على سب الجاهلين وسخرية المجرمين وتغامز السافلين . فمهمة الرسل مهمتهم ، ولهم في صبر النبي صلى الله عليه وسلم المثل الذي تعلو بهم همتهم . فما أكبر نفوسهم وما أعظم أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم . كتب عبد الله العُمري العابد إلى الإمام مالك رحمهما الله : يحضُّه على العُزلةِ والعمَل المنفرد، فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله : \"إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبّ رجلٍ فُتِح له في الصلاة ولم يفتَح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقةِ ولم يفتَح له في الصوم\"، ثم يقول الإمام مالك : \"ونشرُ العلم من أفضلِ أعمال البرّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه ، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكونَ كلانا على برٍّ وخير\" وصدق رحمه الله والله تعالى يقول (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) . بارك الله لي ولكم ... الحمد لله أما بعد :- فتنوع الأعمال التي فتحها الله على عباده لا حدَّ ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المؤمن حارث وهمام فهو حارث بفعله يباشر أعماله ، وما لا يستطيعه فهو همَّام به أي : له نية حسنة فيه لو استطاعه لعمله . فالتاجر في عمله والموظف في وظيفته والمعلم بين طلابه وصاحب الرأي برأيه ومشورته كل بحسبه وحيث يضعها يجدها ، ولا تزال دائرة الخير والعمل تتسع حتى لا تدع لأحد عذراً وتأمل جيداً ما رواه أبو ذرّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله)، قال: فأيّ الرِّقاب أفضل؟ قال: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها ، قال: أرأيتَ إن لم أفعل؟ قال: تعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق ، قال: أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل ؟ قال: تكف شرَّك عن الناس ، فإنّه صدقة تصدَّقُ بها على نفسك) متفق عليه . فاعرف يا عبد الله : أين تضع نفسك في ميدان العمل وفي حياة المسارعة والمسابقة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) . ثم تنبه أنَّ هناك من أبواب الخير ما تمليه الظروف على طائفة من المسلمين دون طائفة فمن كانوا من المسلمين في البلاد التي جثم فيها الاحتلال ، وصارت جيوش الظالمين تجوس خلال ديارهم لا ترحم صغيرهم ولا تؤوي كبيرهم اعتادت أسماعهم دوي الانفجارات ، وألفت أنظارهم صور القتلى والنقَّالات جاورهم من لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، فهؤلاء عندهم من أبواب العمل ما نرجو الله لهم أن يكون سبباً في تفريج كربتهم وفك غربتهم في ديارهم فهم يعبدون الله في انتظار الفرج ومن أفضل العبادات انتظار الفرج ، ويتعبدون الله بأخذ أسباب النصر والتمكين ودفع العدو الغاشم تارة بالعفو والمدارات (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) وتارة بالمقاتلة والنكاية بالعدو والله تعالى يقول (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) . فحق هؤلاء على إخوانهم أن يدعوا الله لهم بالنصر القريب [1] اللهم إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك ... -------------------------------------------------------------------------------- [1] هذه الخطبة مستفادة من خطبة للشيخ د : صالح بن حميد



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 05:25 صباحًا الجمعة 19 سبتمبر 1445.