• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 24-11-1435هـ بعنوان قصة البيت العتيق

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  2.4K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله جعل في أخبار السابقين عظة للمتأملين ، و خص منهم الأنبياء و المرسلين ، ففي قَصَصِهم عِبرة لأولي الألباب ، ليحيى من حيَّ عن بيّنة ، و يهلِك من سبق عليه الكتاب و أشهد أن لا إله إلا الله ربُّ الأرباب ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، أمر بالتوكل مع أخذ الأسباب ، صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب ، و سلم تسليماً كثيراً .. أمـا بعد ؛؛ فحيث تتوجه القلوب و الأبدان إلى بيت الله الحرام ، قاصدين مكة و المشاعر ، راغبين في الطواف و السعي ، مؤملين مثوبة من ربهم ، سائلين خلاصاً من ذنوبهم .. فهم إلى بقاع طاهرة جدّوا سائرين ، و إلى أماكن نزلها الأنبياء قبلهم مرتحلين ، فهناك الكعبة المشرفة بناها إبراهيم الخليل ، و أذن في الناس أن حُجُّوا بيت ربكم الجليل .. فما تاريخ البيت ؟ ، و ما قصته ؟ ، و أي عِبرٍ تتصيّدها القلوب قبل الأسماع ؟ فخطبتنا في جمعتنا هذه إن شاء الله خطبتنا عن رحلة تاريخية .. فأرعِ سمعك، أرعِ سمعك ، ما حدث به ابن عباس رضي الله تعالى عنه و هو الصحابي الثقة الحافظ لما ينقله ، فاستمع .. فعن سعيد بن جبير رحمه الله قال : قال ابن عباس : جاء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل عليه السلام و أمه هاجر ، و هي لا تزال ترضع وليدها .. فالرحلة طويلة شاقة ، من الشام حتى أرض الحجاز ، فحطّ رحله عند دوحة : شجرة كبيرة ، و ليس في ذاك المكان يومئذٍ أحد ، و ليس به ماء .. وضعهما هناك إسماعيل و أمه ، و وضع عندهما جِراباً فيه تمرٌ ، و سِقاءً فيه ماء .. ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب ؟ أين تذهب و تتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس و لا شيء؟ .. فقالت له ذلك مراراً ، و جعل إبراهيم لا يلتفت إليها ، حتى قالت له : أآلله الذي أمرك بهذا ؟ .. قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت .. فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم رفع يديه و دعا قائلاً : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } .. دعوات صادقة لا يملك غيرها ليُقدِمها عزاءً لنفسه و هو يُنَفِذُ أمر ربه في ترك رضيعٍ مع أمه .. فلــتَأخذ هذه الدعواتُ مداها .. و لننظر في حفظ الله لمن حَفِظه في أهله و ولده .. جعَلَت أُمُّ اسماعيل تُرْضِعُ اسماعيل ، و تشربُ من ذلك الماء ، حتى إذا نَفَدَ ما في السِقاء ، عَطِشت و عَطِش ابنها ، و بلغ العطش فيه مبلغاً صعباً ، فجعلت أمه تنظر إليه ، و هو يتلوى من شدة حُرقته ، فشَقَّ على الأم أن تنظر إليه و هي لا حول لها و لا قوة في أمره .. مكانٌ خالي ، و رضيعٌ جائعٌ عَطِش ، فانطلقت ، انطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقربَ جَبَلٍ في الأرض يليها ، فقامت عليه .. ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ، فلم ترَ أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها أي ثوبها ، ثم سَعَت سعيَ الإنسان المجهود ، حتى إذا جاوزت الوادي .. ثم أتت المروة ، فقامت عليه و نظرت هل ترى أحداً ، فلم ترَ أحداً ، فعلت ذلك سبع مرات .. قال ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( فذلك سعي الناس بينهما ) .. فلما أشرفت على المروة ، سمعت صوتاً غريباً ، ثم تسَمَّعتْ ، فسَمِعَت ، فأيقنت أنَّ فرجاً ينتظرها يُحيي الله به رضيعها و نفسها .. فإذا هي بالملكِ عند موضع زمزم ، فبحث بعَقِبه أو بجناحه ، فحفر حتى ظهر الماء ، فجعلت تَــحُــوضه : أي تجمعه بيدها حتى يكون كالحوض. و جعلت تغرف من الماء في سقائها ، و هو يفور بعدما تغرف .. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - ؛ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( يرحمُ الله أمَ إسماعيل ، لو كانت تركت زمزم ) أو قال : ( لو لم تغرِف من الماء ) ( لكان زمزمُ عيناً معيناً ) .. فشَرِبت ، و أرضعت ولدها ، قال لها الملَك : ( لا تخافوا الضَيْعة ، فإن ها هنا بيتَ الله ، يبنيه هذا الغلام و أبوه ، و إن الله لا يُضَيعُ أهله ) .. و كان مكانُ البيت مُرتَفِعاً من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه و شماله . ثم لم تزل أمُّ اسماعيل على خير حال مع رضيعها ، حتى مرت بهم رُفقَةٌ من قبيلة جُرهُم ، مقبلين ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائراً عائفاً .. فقالوا : إن هذا الطائر لَيَدورُ على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي و ما فيه ماء ، فأرسِلوا من يستكشف الخبر .. فإذا هم بالماء ، فرجعوا ، فأخبروهم خبر الماء .. فأقبلوا حتى وقفوا على أم اسماعيلَ عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزِل عِندَك ؟.. قالت : نعم ؛ و لكن لا حقَّ لكم في الماء . قالوا : نعم .. قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( فألفى ذلك أمَّ اسماعيل و هي تُحِبُّ الأُنس ) .. فنزلوا و أرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم ، حتى إذا كان فيها أهل أبيات منهم ، و شَبَّ الغلام ، و تعلم العربية منهم ، و أعجبهم حين شَبَّ .. فلما أدرك ، زوجوه إمرأة منهم ، فجاء إبراهيم عليه السلام بعدما تزوج إسماعيل ، و بعدما ماتت أمه ، جاء ينظر ، يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل إمرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا الرزق ، ثم سألها عن عيشهم و هيئتهم ، فقالت : نحن بشرّ و ضيق و شدة ، فشكت إليه .. قال إبراهيم : فإذا جاء زوجك ، فإقرئي عليه السلام ، و قولي له : يُغيّر عتبة بابه .. فلما جاء إسماعيل ؛ كأنه آنس شيئاً ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ .. قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا و كذا ، فسألنا عنك ، فأخبرته ، و سألني كيف عيشُنا ، فأخبرته أنّا في جُهدٍ و شَدة .. قال : هل أوصاكِ بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليكم السلام ، و يقول : غيّر عتبة بابك .. قال إسماعيل : ذاك أبي ، و قد أمرني أن أُفارقكِ ، الحقي بأهلك ، فطلقها .. ثم تزوّج منهم إمرأة أخرى ، فلبث عنه إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد ، فلم يجده ، فدخل على إمرأته ، فسألها عنه ، قالت : خرج يبتغي لنا .. قال : كيف أنتم ؟ ، و سألها عن عيشهم و هيئتهم .. قالت : نحن بخيرٍ و سَعَةٍ ، و أثنت على الله .. قال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم .. قال : ما شرابكم ؟ قالت : الماء .. قال إبراهيم : اللهم بارك في اللحم و الماء .. قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( و لم يكن لهم يومئذٍ حبّ ، و لو كان لهم حبٌّ لدعا لهم فيه ) ، قال : ( فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يُوافقاه ) .. قال فإذا جاء زوجك ، فأقرئي عليه السلام ، و مُرِيه يُـثَــبِّـت عتبة بابه .. فلما جاء إسماعيل ، قال : هل أتاكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، و أثنَت عليه .. فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنّا بخير .. قال : فأوصاكِ بشيء ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، و يأمُرك أن تُثَبِّت عتبة بابك .. قال إسماعيل : ذاك أبي ، و أنت العتبة ، أمرني أن أُمسِكَك .. ثم لَبِث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك ، و إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ قريبةٍ من ماء زمزم ، فلما رآه ، قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، و الولد بالوالد : أي اعتنقه و قبله .. ثم قال : إن الله أمرني بأمر ، قال إسماعيل : فاصنع ما أمر ربُك ، قال : و تُعِنُني ؟ قال : و أُعينُك .. قال : فإن الله أمرني أن أبنيَ بيتاً ها هنا ، و أشار إلى أكَمَة مرتفعة على ما حولها .. قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارة ، و إبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه و هو يبني و إسماعيلُ يُناوله الحجارة و هما يقولان : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } .. فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، و هما يقولان : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } .. هـذه قصـــــــة إبراهــــــــــيم عليه الســــــــــــلام مع ابنه إسمـــــاعيـــــل عليه السلام .. بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم ، و جعلني و إياكم منهما من المنتفعين ، و الحمد لله رب العالمين .. الحمد لله رب العالمين ، و العاقبة للمتقين ، و لا عدوان إلا على الظالمين .. و أشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و التابعين و سلم تسليماً كثيراً.. أمـا بعـــــــــــــد ؛؛ فقصة أبينا إبراهيم و ابنه إسماعيل عليهما السلام قصة تَشُدُّ السامعين .. فيها من معالم التقوى و التوكل على الله الشيءُ الكثير .. فإبراهيمُ عليه السلام ترك ولده الرضيعَ و أُمه في وادً غير ذي زرع لا يَحْدُهُ إلا الثقة بالله ، و التوكل عليه .. نعم ؛ هو تلقى وحيَ الله تعالى في ذلك ، و لكن للنفس نزعات ، حتى إنه لم يستطع أن ينظر إليهما ، و هو منصرفٌ عنهما .. فنازع َ نفسه ، فغلب نفسه طاعة لله تعالى .. و هـــــــذا معـــــــــاشر الســـــــامعين : هذا ما نحتاجه يا عباد الله مع نفوسنا تجاه ما أمر الله به ، أو حرَّمه علينا.. فالنفوس تدعو ، و الشيطان يَؤز، ولا بد من تَغَلُّبٍ على هذا كله بتقوى الله ، و الاستعانة على طاعته ، و الصبر عن محارمه .. { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يُحييكم } .. فالحياة الطيّبة هي بتحقيق طاعة الله بالعمل الصالح .. { من عَمِل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} و مـــــن عِـــــــبَر هـذه القصـــة أيـــها الأخــــوة تلك الصلة التي يقوم بها الأب لابنه على بُعْدِ المسافة ، و كُلفَة النُقلَة ، و تَــفَــقُــدِ حاله ، و إبداءِ المشورة الصادقة في حياته الزوجية .. فكان من ثمار تَلَطُّف الأبّ ؛ طاعةُ الابن بمواقفَ عظيمة ، فقد أطاعه في أصعب موقفٍ على النفس ، حينما رأى إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه .. فكانت طاعة الابن تُسابق الخبر { يا أبَتِ افعل ما تؤمر } .. ثم في تحقيق أمر الله ببناء البيت ، حتى صار بناء البيت مقترناً باسم هذين النبيين الكريمين .. { و إذ يرفع إبراهيمُ القواعد من البيت و إسماعيلُ } .. ثم لا يغيبُ في هذا الحَدَث ، صِدق الرغبة من الأب و ابنه فيما عند الله { ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم } .. أمــــا أخـبار أُمِّ إسمـــــاعـــيل ؛ هـــاجر : فهي المرأة العاقلة ؛ لما علمت أن الأمر ببقائها في الوادي أمرٌ إلهي ؛ لم تُطِل النِقاش .. فهو درسٌ في [ عدم التقدم بين يديّ الله ] ، فافهموه ، و انقلوه إلى نساءكم حتى لا يُبدين و يُعِدْن فيما ورد النهي عنه في شأنٍ من شئونهنّ ، لباسهنّ أو خروجهنّ أو دخولهنّ .. و أمـــا سعيّها تطلبُ الغَوث لرضيعها ، فما مشروعيةُ السعي بين الصفا و المروة في الحَجِّ أو العمرة إلا لإحياء تلك الذكرى في النفوس ، لِتَنشَط في الالتجاءِ إلى الله عز و جل في كل حال .. و أنَّ الله مُغِيثٌ كلّ مُستغيث ، فاصدقوا اللجأ إلى الله ، وتوجهوا بصدقٍ إليه .. فالذي أغاثَ أُمَّ إسماعيل قادر على أن يُغيث الناس أجمعين متى ما تحققت طاعتهم لربِّ العالمين .. فاللهــم أصلح لنا ديننا .. هـــذه - أيها الأخـــوة - بعض أخبار البيت الحرام ، حرَّمَه الله تعالى ، و لم يُحَرِّمه الناس ، و جعله آمناً لا يُنَفَّر صيده ، و لا يُعْضدُ شجره .. عَظَمَ الله المعصية فيه ، و توعد من أراده بإلحادٍ بالعذاب الأليم .. { و من يرد فيه بإلحادٍ بطلمٍ نُذِقّهُ من عذاب أليم } اللهم احفظ بلاد المسلمين ... اللهــــم من أراد الإسلام أو المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره ، و أفسد عليه أمره ، و اجعل ما يُخططه تدميراً عليه ، يا قــــوي يا عـــــزيـــــز .. اللهــــم إنا نسألك أن تنصر من بنصرته نصرانٌ للدين ، و أن تخذل من بخُذلانه نُصرانٌ للدين ، يا رب العالمــــين .. اللهـــم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان .. اللهــــم أصلح أحوالهم في بلاد سوريا والعراق، و في بلاد ليبيا، و في بلاد اليمن ، و في كل أرض أنت أعلم بها منا ، يا رب العالمين .. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، و نجنا برحمتك من القوم الكافرين . اللهـــم لا تجعل لليهود الظالمين على المسلمين يداً .. و لا للنصارى الحاقدين على المسلمين يداً .. و لا للرافضة المنافقين على المسلمين يداً .. اللهـــم قوِّ عبادك ، و مكّن لهم في ديارهم ، و آمنهم في دورهم ، و اجعل العاقبة للمتقين منهم ... 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 08:07 صباحًا السبت 11 أكتوبر 1445.