• ×

د.عبدالرحمن الدهش

4- حصائد الألسن

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  1.8K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

إن الحمد لله ...

أما بعد:-

فما أشد ذنباً أتاه صاحبه على حين جهالة من عمله، وسفه في نفسه.

فهو لا يرى أنه فعل شيئاً، أعمته نشوة الحديث، وفتنة القول، وللقول – يا عباد الله - فتنة قل الناجون منها قال النبي صلى الله عليه وسلم (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) .

حديثي أيها الإخوة إليكم عن ذنب لازم صاحبه، حتى صار رديفاً له يمشي به قد لازمه ملازمة الظل لصاحبه، يغشى به الناس، ويحضر به مجالسهم .

ثم لا يزال كذلك يمضي عمره حتى إذا حضر الموت، وفارقت الروح جسدها، وطويت صحيفة أعماله ونقل الرجل إلى قبره وجد عمله الذي يمشي به قد سبقه إلى قبره ليأخذ جزاءه عاجلاً في ظلمة القبر قبل يوم حسابه، فماهذا العمل الذي هذا بعض شؤمه ؟.

استمع إلى الحديث المتفق عليه

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين ، فقال : (إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ، فغرز في كل قبر واحدة . فقالوا : يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ).

هذا هو عمله وهذه عقوبته العاجلة نعوذ بالله من عذاب القبر .

كان يمشي بالنميمة، فلعظمها وشدة أثرها صارت سبباً لعذاب القبر .

والنميمة يا عباد الله مرض قلبي قبل أن يكون آفة من آفات اللسان، فالنمام ينقل الكلمات بين الناس بقصد الإفساد بينهم، فيفرق المتصافيين، ويزرع الأحقاد .

نسي النمام نفسه، وغابت عنه عيوبه فاشتغل بحال غيره، فهو يفشي الشر ويطوي الخير، وإذا لم يجد كذب وافترى وزاد في الحدث واجترأ .

حاله حال الناصح الراغب في الخير يقطر لسانه من حلاوة الألفاظ، ولكن قلبه يعتصر بالغيظ والأحقاد .

يفسد في جلسة ما لا يفسده غيره في سنة كاملة.

قال فيه أبو هريرة رضي الله عنه وصدق : النمام شر خلق الله "

فيا لله كم أسرة تفككت بالنميمة وحدتُها، وأرحامٍ تقطعت بسببها صلتها .

وكم من مستحق حرم استحقاقَه بوشاية ونميمة نقلت إلى مرجعه، فكرهه مديره، وتعطلت مصالحه وضاعت بل أضيعت فرصته المالية وعلاواته الوظيفية بسبب هذا الجريء على حدود الله المستهين بكبيرة من كبائر الذنوب .

فموعدة القبر وظلمته (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)

أي ليس بكبير، أي: شاق عليه بل يمكنه التحرز منه لو راقب الله ونهى النفس عن الهوى، ولكنه طغى وآثر الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

أيها الإخوة إن من أقبح النميمة حينما تكون نميمة بسر قد ائتمنت عليه، أحسن الظن بك صاحبه، وقال: لم أخبر بهذا غَيرك، ولم أُطلْع على ما قلته لك أحداً .

وعن جابر رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة) رواه أبو داود والترمذي  وحسنه، وكذا الألباني .

فقرت عينه أنّ سِره في مأمن،وما علم أن صاحبه الذي وثق فيه صادف ثقة في غير محلها ، فسرعان ما التفت إلى من يلقيه إليه ويحدثه به ليفشي سراً أؤتمن عليه، متزلفاً إلى هذا الآخر أنه خصه بسر فلان .

فما أعظم الخيانة، وأَقْبِح بمن ضاعت مروءته، وندنست شهامته .

كنت في عافية من تحمل السر فيا سبحان الله، تقوى على نشره خيانة، ولا تقوى على الاعتذار من حمله ديانة .

فتضيع أسرار الأصحاب والجيران .

ثم إليك خبر أشر الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها "

فيذكر ما بها من نقص خُلُق أو عيب خِلقة مما لا يطلع عليه إلا زوجها يذكره لأدنى مناسبة أو بغير مناسبة لا يلقي لذلك بالاً، خف دينه، وقلت غيرته.

وأشده ما يتعلق بخاصة المعاملة وأمور الجماع والمعاشرة .

سبحان الله !!

أيقوى الإنسان على ذلك ؟

نعم، وقد قال عليه السلام :" إذا لم تستح فاصنع ما شئت" .

إن من الأسرار أن ترى الرجل على حال لا يحب أن تراه عليها عند بيته، أو في رحلة أو سفره .

فتصبح تحدث أنك رأيت فلانا على كذا وكذا من ثم إن ركبتك حماقة وأخذت له صورة فما أعظم عدوانك وأذيتك لإخوانك (ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته) الأحوال أو اللباس وإن كان غير محرم شرعاً.

ومن الأسرار أن تأتيك بالغلط رسالة أو مقطع أو محادثة خاصة ثم تبادر لاستكشافها ومعرفة ما فيها ثم تستلذ الحديث عنها، والتندر بها.

فإن أردفها برسالة يبين غلط الإرسال ويأمل أو يحرج من فتحها فهذه أمانة لا يجوز تجاوزها .

(ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) أقول قولي ....

الثانية:

اعلموا أن للقول فتنة ، وللكلمة تبعة تبلغوا بصاحبها أعالي الدرجات، أو تهوي به في حظيظ الدركات .

عن بلال بت الحارث المزني قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) رواه البخاري  .

فكيف فهم السلف هذا الحديث العظيم ؟

كان علقمة بن وقاص الليثي أحد كبار التابعين: بيقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث !

فما أعظم المسؤولية !

كلمة تقولها مع جليسك، أو جلسائك أو في بيتك مع أهلك وأولادك، أو في مخيمك حين يحلو السمر، ويطول الليل  لم تُعِدَّ لها تحضيراً ، ولم تظنَّ أن لها تأثيراً، ولكن نفع الله بها مَن سمعها منك مباشرة، أو نقلت إليه بواسطة فكانت رفعة لك أيها القائل درجاتٍ في الجنة؛ لأنَّها كلمة من رضوان الله فهي أمرٌ بخير، أو تحذير عن شرٍّ ، أو خبر فيه عِبرة وعظة.

وعكس هذا من كانت كلمته من سخط الله فهو يهوي بها في نار جهنم ، حيث لم يتورع عن كذب ، أو غيبة ، أو نميمةٍ ، أو استهزاء بأحد ، وأقبح الاستهزاء الاستهزاء بالشرع والدين ، وهو كفر برب العالمين   قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم

وإن لم يكن من هذا أو ذاك فهو لغو يضيع به الوقت ويقسو به القلب، وربما أفسد العشرة بين المتآلفين، وقضى على الرابطة بين قوم متحابين وإن التساهل بالقول، وإطلاق اللسان في كلِّ ميدان، وعدم تحري الإنسان هو دليل على ضعف إيمانه، وقلة حيطته لما فيه صلاح دينه .

حيث لم يعتبر الميزان الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) متفق عليه .

فالصَّمتُ يَسَعُ كلَّ من لم ير الخيرَ في مقاله، والكلمةُ ما دامت لم تخرج من صاحبها هو في عافية وحلٍّ منها.

فأنت أميرها مالم تقلها، فإن قلتها أصبحتَ مأموراً لها، مسؤولٌ عن دلالتها، ملومٌ على رديئها وسيئها .

سأل معاذ بن جبل  - رضي الله عنه -  النبي  صلى الله عليه وسلم عن ملاك الأمر، وما يكون جامعاً لأبواب الخيرِ، ومبعداً عن خصال الشر .

فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم  بلسانه ، أي : أمسك به .

وقال: (كُفَّ عليك هذا ، قال معاذ: يانبي الله، وأنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به .

فقال ثكلتك أمُّك، يا معاذ ، وهل يكبُّ الناس على وجوههم، أو قال : على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) رواه الترمذي ، وقال : حسن صحيح .

اللهم أعنا على أنفسنا ...

 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 12:02 صباحًا الإثنين 20 أكتوبر 1445.